كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الشوكاني في «نيل الأوطار» ما نصُّه: وثانيًا بالأحاديث القاضية، بأنه لا يقتل حر بعبد، فإنها قد رويت من طرق متعددة يقوي بعضها بعضًا فتصلح للاحتجاج.
قال مقيده عفا الله عنه: وتعتضد هذه الأدلة على ألا يقتل حر بعبد بإطباقهم على عدم القصاص للعبد من الحر فيما دون النفس، فإذا لم يقتص له منه في الأطراف، فعدم القصاص في النفس من باب أولى ولم يخالف في أنه لا قصاص للعبد من الحر فيما دون النفس إلا داود، وابن أبي ليلى، وتعتضد أيضًا بإطباق الحجة من العلماء على أنه إن قتل خطأ ففيه القيمة، لا الدية.
وقيده جماعة بما إذا لم تزد قيمته عن دية الحر، وتعتضد أيضًا بأن شبه العبد بالمال أقوى من شبهه بالحر، من حيث إنه يجزي فيه ما يجري من المال من بيع وشراء، وإرث وهدية، وصدقة إلى غير ذلك من أنواع التصرف، وبأنه لو قذفه حر ما وجب عليه الحد عند عامة العلماء، إلا ما روي عن ابن عمر والحسن، وأهل الظاهر من وجوبه في قذف أم الولد خاصة.
ويدل على عدم حد الحر بقذفه العبد ما رواه البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: «من قذف مملوكه- وهو بريء مما يقول- جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال»، وهو يدل على عدم جلده في الدنيا، كما هو ظاهر.
هذا ملخص كلام العلماء في حكم قتل الحر بالعبد.
وأما قتل المسلم بالكافر فجمهور العلماء على منعه، منهم مالك، والشافعي، وأحمد، وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، ومعاوية رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وعطاء، وعكرمة، والحسن، والزهري، وابن شبرمة، والثوري والأوزاعي، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن المنذر، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني وغيره، ورواه البيهقي عن عمر، وعلي، وعثمان وغيرهم.
وذهب أبو حنيفة، والنخعي، والشعبي إلى أن المسلم يقتل بالذمي، واستدلوا بعموم النفس بالنفس في الآية والحديث المتقدمين، وبالحديث الذي رواه ربيعة بن ابي عبد الرحمن، عن ابن البيلماني، عن ابن عمر «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلمًا بمعاهد»، وهو مرسل من رواية ضعيف، فابن البيلماني لا يحتج به لو وصل، فكيف وقد أرسل، وترجم البيهقي في «السنن الكبرى» لهذا الحديث بقوله باب بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر، وما جاء عن الصحابة في ذلك، وذكر طرقه، وبين ضعفها كلها.
ومن جملة ما قال: أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه، قال: قال أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ ابن البيلماني: ضعيف لا تقوم به حجَّة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله، والله أعلم.
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] الآية ما نصه، ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلمًا بكافر» لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني، وهو ضعيف عن ابن عمر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا، قال الدارقطني: لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى، وهو متروك الحديث. والصواب عن ربيعة، عن ابن البيلماني مرسل عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف الحديث، لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله فإذا عرفت ضعف الاستدلال على قتل المسلم بالكافر، فاعلم أن كونه لا يقتل به ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لا مطعن فيه مبينًا بطلان تلك الأدلة التي لا يعول عليها.
فقد أخرج البخاري في صحيحه في باب «كتابة العلم»، وفي باب «لا يقتل المسلم بالكافر» أن أبا جحيفة سأل عليًا رضي الله عنه: هل عندكم شيء ما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة إلا فهمًا يعطيه الله رجلًا في كتابه، وما في هذه الصَّحيفة قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر.
فهذا نص صحيح قاطع للنزاع مخصص لعموم النفس بالنفس، مبين عدم صحة الأخبار المروية بخلافه، ولم يصح في الباب شيء يخالفه، قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ساق حديث علي هذا: ولا يصح حديث، ولا تأويل يخالف هذا، وقال القرطبي في تفسيره: قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، الآية. وعموم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ في الْقَتْلَى} [البقرة: 178] فهذا الذي ذكرنا في هذا المبحث هو تحقيق المقام في حكم القصاص في الأنفس بين الذكور والإناث، والأحرار والعبيد، والمسلمين والكفار.
وأما حكم القصاص بينهم في الأطراف، فجمهور العلماء على أنه تابع للقصاص في الأنفس، فكل شخصين يجري بينهما القصاص في النفس، فإنه يجري بينهما في الأطراف، فيقطع الحر المسلم بالحر المسلم، والعبد بالعبد، والذمي بالذمي، والذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر، ويقطع الناقص بالكامل، كالعبد بالحر، والكافر بالمسلم.
ومشهور مذهب مالك أن الناقص لا يقتص منه للكامل في الجراح، فلا يقتص من عبد جرح حرًا، ولا من كافر جرح مسلمًا، وهو مراد خليل بن إسحاق المالكي بقوله في مختصره: والجرح كالنفس في الفعل، والفاعل والمفعول، إلا ناقصًا جرح كاملًا، يعني فلا يقتص منه له، ورواية ابن القصار عن مالك وجوب القصاص وفاقًا للأكثر، ومن لا يقتل بقتله، لا يقطع طرفه بطرفه، فلا يقطع مسلم بكافر، ولا حر بعبد، وممن قال بهذا مالك، والشافعي، وأحمد، والثوري، وأبو ثور، وإسحاق، وابن المنذر، كما نقله عنهم صاحب المغني، وغيره.
وقال أبو حنيفة: لا قصاص في الأطراف بين مختلفي البدل، فلا يقطع الكامل بالناقص، ولا الناقص بالكامل، ولا الرجل بالمرأة، ولا المرأة بالرجل، ولا الحر بالعبد، ولا العبد بالحر.
ويقطع المسلم بالكافر، والكافر بالمسلم. لأن التكافؤ معتبر في الأطراف بدليل أن الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء، ولا الكاملة بالناقصة، فكذلك لا يؤخذ طرف الرجل بطرف المراة، ولا يؤخذ طرفها بطرفه، كما لا تؤخذ اليسرى باليمنى.
وأُجيب من قبل الجمهور، بأن من يجري بينهما القصاص في النفس، يجرى في الطرف بينهما، الحرِّين، وما ذكره المخالف يبطل بالقصاص في النفس، فإن التكافؤ فيه معتبر بدليل أن المسلم لا يقتل بمستأمن، ثم يلزمه أن يأخذ الناقصة بالكاملة، لأن المماثلة قد وجدت، ومعها زيادة، فوجب أخذها بها إذا رضي المستحق، كما تؤخذ ناقصة الأصابع بكاملة الأصابع.
وأما اليسار واليمين، فيجريان مجرى النفس لاختلاف محليهما، ولهذا استوى بدلهما، فعلم أنها ليست ناقصة عنها شرعًا، وأن العلة فيهما ليست، كما ذكر المخالف، قاله ابن قدامة في المغني.
ومن الدليل على جريان القصاص في الأطراف، بين من جرى بينهم في الأنفس، قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 54].
وما روي عن الإمام أحمد من أنه لا قصاص بين العبيد، فيما دون النفس، وهو قول الشعبي، والثوري، والنخعي، وفاقًا لأبي حنيفة، معللين بأن أطراف العبيد مال كالبهائم يرد عليه بدليل الجمهور الذي ذكرنا آنفًا، وبأن أنفس العبيد مال أيضًا كالبهائم، مع تصريح الله تعالى بالقصاص فيها في قوله تعالى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178].
واعلم أنه يشترط للقصاص فيما دون النفس ثلاثة شروط:
الأول: كونه عمدًا، وهذا يشترط في قتل النفس بالنفس أيضًا.
الثاني: كونهما يجري بينهما القصاص في النفس.
الثالث: إمكان الاستيفاء من غير حيف، ولا زيادة، لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] الآية، ويقول: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، فإن لم يمكن استيفاؤه من غير زيادة سقط القصاص، ووجبت الدية، ولأجل هذا أجمع العلماء على أن ما يمكن استيفاؤه من غير زيادة سقط القصاص، ووجبت الدية، ولأجل هذا أجمع العلماء على أن ما يمكن استيفاؤه من غير حيف، ولا زيادة، فيه القصاص المذكور في الآية، في قوله تعالى: {والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن} [المائدة: 45]، وكالجراح التي تكون في مفصل، كقطع اليد، والرجل من مفصليهما.
واختلفوا في قطع العضو من غير مفصل، بل من نفس العظم، فمنهم من أوجب فيه القصاص نظرًا إلى أنه يمكن من غير زيادة، وممَّن قال بهذا مالك، فأوجب القصاص في قطع العظم من غير المفصل، إلا فيما يخشى منه الموت، كقطع الفخذ، ونحوها.
وقال الشافعي: لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقًا، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وابن عباس، وبه يقول عطاء، والشعبي، والحسن البصري، والزهري، وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وإليه ذهب سفيان الثوري، والليث بن سعد، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد، كما نقله عنهم ابن كثير، وغيره.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شيء من العظام، إلا في السِّن.
واستدل من قال بأنه لا قصاص في قطع العظم من غير المفصل، بما رواه ابن ماجه من طريق أبي بكر بن عياش، عن دهثم بن قران، عن نمران بن جارية، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي، أن رجلًا ضرب رجلًا على ساعده بالسَّيف من غير المفصل فقطعها، فاستعدى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فأمر له بالدية. فقال: يا رسول الله أريد القصاص، فقال: «خذ الدية بارك الله لك فيها» ولم يقض له بالقصاص.
قال ابن عبد البر: ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد، ودهثم بن قران العكلي ضعيف أعرابي ليس حديثه مما يحتج به، ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضًا، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة، اه. من ابن كثير.
وقال ابن حجر في «التقريب» في دهثم المذكور: متروك، وفي نمران المذكور: مجهول، واختلاف العلماء في ذلك، إنما هو من اختلافهم في تحقيق مناط المسألة، فالذين يقولون بالقصاص: يقولون: إنه يمكن من غير حيف، والذين يقولون: بعدمه، يقولون: لا يمكن إلا بزيادة، أو نقص، وهم الأكثر.
ومن هنا منع العلماء القصاص، فيما يظن به الموت، كما بعد الموضحة من منقلة أطارت بعض عظام الرأس، أو مأمومة وصلت إلى أم الدماغ، أو دامغة خرقت خريطته، وكالجائفة، وهي التي نفذت إلى الجوف، ونحو ذلك للخوف من الهلاك.
وأنكر الناس على ابن الزبير القصاص في المأمومة. وقالوا: ما سمعنا بأحد قاله قبله، واعلم أن العين الصحيحة لا تؤخذ بالعوراء، واليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء، ونحو ذلك، كما هو ظاهر.
تنبيه:
إذا اقتص المجني عليه من الجاني، فيما دون النفس، فمات من القصاص، فلا شيء على الذي اقتص منه، عند مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو قول الجمهور من الصحابة، والتابعين، وغيرهم.
وقال أبو حنيفة: تجب الدية في مال المقتص، وقال الشعبي، وعطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، والحارث العكلي، وابن أبي ليلى، وحماد بن أبي سليمان، والزهري، والثوري، تجب الدية على عاقلة المقتص له.
وقال ابن مسود، وإبراهيم النخعي، والحكم بن عتيبة، وعثمان البتي، يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة، ويجب الباقي في ماله، قاله ابن كثير.
والحقّ أن سراية القود غير مضمونة، لأن من قتله القود، قتله الحق، كما روي عن أبي بكر، وعمر، وغيرها، بخلاف سراية الجناية، فهي مضمونة، والفرق بينهما ظاهر جدًا.
واعلم أنه لا تؤخذ عين، ولا أذن، ولا يد يسرى بيمنى، ولا عكس ذلك، لوجوب اتحاد المحل في القصاص، وحكي عن ابن سيرين، وشريك أنهما قالا بأن إحداهما تؤخذ بالأخرى، والأول قول أكثر أهل العلم.